الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في القرن العشرين | فصل

كتاب «الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في القرن العشرين» (2022)

 

صدر عن «مركز دراسات الوحدة العربيّة» كتاب «الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في القرن العشرين» (2022)، للباحث والكاتب الفلسطينيّ عبد القادر ياسين.

يغطّي الكتاب مساحة زمنيّة واسعة من تاريخ فلسطين الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ المعاصر، امتدّت على مدى القرن العشرين تقريبًا، منذ بدايات تنفيذ المشاريع الاستعماريّة الغربيّة والمشروع الصهيونيّ في فلسطين والمنطقة عقب انهيار الدولة العثمانيّة بعد الحرب العالميّة الأولى، وما أفرزته هذه المشاريع من حركات مقاومة وتحرير وتحرّر وطنيّ فلسطينيّة، إلى ما بعد اتّفاقات أوسلو وقيام السلطة الفلسطينيّة، وما أحدثه ذلك من تصدّع في المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ وحركته الوطنيّة.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مقتطفًا من الكتاب بالتعاون مع الناشر.

 


 

فلسطينيّو الأراضي المحتلّة عام 1948 يُصْدَمون فيستفيقون

لم يكن لـ «اتّفاق أوسلو» إلّا أن يُسبّب صدمة لفلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948 الّذين انتظروا أن يشملهم مثل هذا الاتّفاق، لا أن يتنازل عنهم المفاوض الفلسطينيّ للاستعمار الإسرائيليّ ويعتبرهم ’عرب إسرائيل‘. على أنّهم - إلّا قلّة منهم - لم يروا في اتّفاق الإذعان ذاك مشروع تصفية، دون تسوية القضيّة الفلسطينيّة في مجملها، وضمنها قضيّتهم.

تعزّر إسرائيل نفسها بوصفها - من الناحيتين القانونيّة والبنيويّة – "دولة الشعب اليهوديّ"، لا "دولة كلّ مواطنيها"، ولعلّ وضع الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة في الاقتصاد الإسرائيليّ هو الدليل الأوضح على وضعهم الإجماليّ في المجتمع الإسرائيليّ؛ إذ إنّهم محرومون من كلّ قطاع اقتصاديّ، إلى تمييز مؤسّساتيّ ومنهجيّ تمارسه الدولة في حقّهم؛ فلقد استُبْعِد القطاع العربيّ في إسرائيل عن برنامج الخصخصة في مطلع تسعينات القرن العشرين، وعن برنامج التنمية الحكوميّ، واستمرّت القرى والبلدات العربيّة تتلقّى من الحكومة ما لا يتجاوز جزءًا بسيطًا ممّا تتلقّاه المناطق اليهوديّة. بينما لا تُحدّد الوضع المهمّش للفلسطينيّين في الاقتصاد الإسرائيليّ قواعد السوق الحرّة، إنّما السياسة التمييزيّة العامّة لحكومة إسرائيل، بأنّهم يشكّلون أقلّيّة قوميّة إثنيّة، لا قوّة لها، تتعرّض للتمييز في المعاملة من النظام السياسيّ الّذي تتحكّم فيه الأكثريّة السياسيّة.

تعزّر إسرائيل نفسها بوصفها  "دولة الشعب اليهوديّ"، لا "دولة كلّ مواطنيها"، ولعلّ وضع الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة في الاقتصاد الإسرائيليّ هو الدليل الأوضح...

إنّ سياسة التمييز هذه مستمدّة، في الدرجة الأولى، من طبيعة إسرائيل مجتمعًا، ومن تعريفها بأنّها دولة يهوديّة - صهيونيّة، غايتها تأمين الحقوق الحصريّة للأكثريّة اليهوديّة، والعمل كدولة للشعب اليهوديّ. مع هذا كلّه، تحوّلت الأقلّيّة هنا إلى الهجوم، فمارست ضغوطًا مضادّة لتحسين وضعها، بتغيير ’قواعد اللعبة‘، وإن ببطء، وبشقّ الأنفس[1]‏.

 

العصا والجزرة الاستعماريّة

حين بدا أنّ «مؤتمر مدريد»، ومن بعده واشنطن، أهملا وضع الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة عام 1948، وفي القلب منه اللاجئون منهم داخل وطنهم[2]‏، تداعى أولئك اللاجئون، والتأم في الناصرة في 24 نيسان (إبريل) 1992 اجتماع انتخب «لجنة المبادرة للدفاع عن حقوق المهجَّرين في إسرائيل»، واتّخذ الاجتماع جملة من القرارات. وغداة توقيع «اتّفاق أوسلو»، وبدْء الحكم الإداريّ الذاتيّ المحدود في الضفّة والقطاع، عُقِد في «قصر السلام» في الجليل، المؤتمر الشعبيّ الأوّل للمهجَّرين، والّذي حضره 280 مندوبًا، مثّلوا نحو 30 قرية مهجَّرة[3]‏.

أبرزت «انتفاضة الحجارة» الفوارق بين فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948 والتجمّعات الفلسطينيّة الأخرى؛ إذ أثبتت أنّ ’الخطّ الأخضر‘ يشكّل حدودًا فاصلة بين واقعهم وواقع الفلسطينيّين الآخرين، وكذلك مصيرهم المختلف. ازداد الارتباك في مواقفهم، وترسّخ شعورهم بالتهميش في المجتمع الفلسطينيّ، إضافة إلى غموض التوجّهات السياسيّة، لكنّها ساهمت، في وقت لاحق، في بلورة هذه التوجّهات وإيضاحها، بما أحدثته من تغيير في السياسة الإسرائيليّة تجاه الأقلّيّة العربيّة في إسرائيل، وفي مواقف القيادة العربيّة من هذه الأقلّيّة، ومن دورها في النضال العربيّ[4].

بينما وجدت السلطة الاستعماريّة الإسرائيليّة الانتفاضة سانحة لاتّخاذ خطوات وإجراءات تُعيد سيطرتها على فلسطينيّي الأراضي المحتلّة عام 1948، الّذين كُلِّل احتجاجهم بإضراب ’يوم المساواة‘ في 24 حزيران (يونيو) 1987، وزاد على الاحتجاج ضدّ استخدام القبضة الحديديّة في الضفّة والقطاع المنتفضَين. وشكّلت تلك الضغوط مصدر قلق وإزعاج للسلطة الاستعماريّة.

أتى هذا الجوّ لتعميق سياسة ’العصا والجزرة‘، بالوسائل التالية: (1) التهديد؛ (2) العنف؛ (3) زيادة عزلة العرب في المجتمع الإسرائيليّ اجتماعيًّا ونفسيًّا باستخدام وسائل الإعلام؛ (4) تعميق سياسة الاستقطاب السياسيّ وشراء الولاءات. وأحرزت تلك الوسائل نجاحًا كبيرًا لعدّة أسباب[5]، منها التنافس المحتدم بين التنظيمات السياسيّة لفلسطينيّي الأراضي المحتلّة، والمزاحمة الشديدة بين الكتلتين الحزبيّتين الرئيسيّتين في إسرائيل («العمل» و«الليكود»)، وإعلان الدولة الفلسطينيّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة في عام 1967، واستثناء عرب 48 من الحلّ، ومحاولات «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» استمالة الشخصيّات العربيّة المقرَّبة من السلطة الاستعماريّة الإسرائيليّة، وخاصّة الشخصيّات المقرَّبة من حزب «العمل»، وشعور رؤساء السلطات العربيّة المحلّيّة بالثقة بالنفس لكونهم منتخبين انتخابًا مباشرًا؛ وهو ما منحهم حرّيّة اتّخاذ المواقف السياسيّة، من دون الرجوع إلى الجمهور.

وهذا ما أدّى إلى النتائج، الاجتماعيّة السياسيّة، التالية[6]، إذ شجّعت السلطات الاستعماريّة الإسرائيليّة استمرار الهياكل التقليديّة التقسيميّة القائمة بين الأهالي العرب. وخلقت المصادرة الواسعة للأراضي العربيّة تغييرات عميقة في الهيكل الاقتصاديّ - الاجتماعيّ، والقيم الاجتماعيّة للمجتمع العربيّ، وتحوَّل المجتمع الريفيّ العربيّ إلى بروليتاريا غير ماهرة، كما ظهرت الفئات الوسطى، ومعظمها من الحِرفيّين وصغار المقاولين ورجال الأعمال، مع فئة القطاع الصناعيّ، ما حفّز عمليّة تغيير سياسيّ ديناميّة لم تزل ناشطة.

 

استعادة الهويّة الجمعيّة

بذلت إسرائيل قصارى جهدها لطمس علاقات الوطنيّة الفلسطينيّة داخل حدودها، وإنكار وجودها وشرعيّتها التاريخيّة، وهو ما اقترن بنقاط ضعف هيكليّة في المجتمع العربيّ. وبحلول نهايات الستّينات، غدا العرب يرون أنفسهم جزءًا لا يتجزّأ من الشعب الفلسطينيّ، أكثر من انتمائهم إلى إسرائيل. وقد اكتملت ’فلسطنة‘ فلسطينيّي الأراضي المحتلّة في أوائل الثمانينات.

إذ تجلّى إجماع لافت حيال القضيّة الداخليّة والقضيّة الفلسطينيّة الأشمل، وأدوات تحقيق الأهداف السياسيّة. وباكتمال فلسطنة الهويّة الجماعيّة، بحلول أوائل الثمانينات، حذا نشاطهم السياسيّ الحذو نفسه، وأصبحت الهويّة الفلسطينيّة نقطة الارتكاز.

بحلول نهايات الستّينات، غدا العرب يرون أنفسهم جزءًا لا يتجزّأ من الشعب الفلسطينيّ، أكثر من انتمائهم إلى إسرائيل...

أصبح استحثاث «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» ورموزها من الموضوعات المهيمنة في حملة انتخابات عام 1988. بينما كانت انتخابات عام 1984 قد شهدت الاختفاء النهائيّ لقوائم المرشّحين العرب، المرتبطة بالأحزاب الصهيونيّة الّتي عزّزت توجّهها لمنح زعماء الحمائل قدرًا من الامتيازات الشخصيّة لاستقطاب الأصوات الشعبيّة.

لكن بعد انتخابات عام 1981، اتّضح أنّ التغييرات الاقتصاديّة - الاجتماعيّة - السياسيّة، بدأت تأخذ مجراها داخل المجتمع العربيّ في إسرائيل. وفي انتخابات عام 1984، منح نحو 50% من الناخبين العرب «الجبهة» و«التقدّميّة» أصواتهم، بينما حاز «العمل» على نصف هذه الأصوات، وكمنت وراء النزعة إلى التنظيم دوافع رئيسيّة، لعلّ أهمّها: الاستجابة إلى متطلّبات معيّنة لقطاع من الأهالي، والمشاركة في المجهود العامّ لفلسطينيّي الأراضي المحتلّة في سبيل مساواتهم.

هكذا، تأكّد مدى حميميّة ارتباط فلسطينيّو الأراضي المحتلّة بالمدّ والجزر في السياسة الفلسطينيّة، وسرعان ما انعكس تركيب القوى الإقليميّة على مواقفهم وتنظيماتهم السياسيّة. وقد بدؤوا يتحدّون، علنًا وبافتخار، الحملة الإسرائيليّة لقمع هذه ’الفلسطنة‘، بل إنّهم جعلوا من فلسطينيّتهم محورًا لسلوكهم السياسيّ واهتماماتهم الثقافيّة وهويّتهم الجماعيّة. لقد نضجوا، بما أهّلهم لتشكيل مجتمع ديناميّ متلاحم، يمارس نشاطه بشكل ملحوظ، ويبدي استعدادًا متزايدًا لتقديم مساهمة دائمة وبارزة في الحياة السياسيّة في إسرائيل.

 

مركزة الهويّة الفلسطينيّة

تأثّر فلسطينيّو الأراضي المحتلّة سلبًا بـ «اتّفاقيّة أوسلو»، بعد أن كانوا قد تبنّوا غداة هزيمة عام 1967 العربيّة مواقف جماعيّة لحلّ القضيّة الفلسطينيّة، على نحوٍ اقترب من طرح التيّار المركزيّ في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ما جعلهم يقبلون بما تقبل به القيادة الفلسطينيّة، حتّى لو كانوا هم الثمن[7].

تأثّر فلسطينيّو الأراضي المحتلّة سلبًا بـ «اتّفاقيّة أوسلو»، بعد أن كانوا قد تبنّوا غداة هزيمة عام 1967 العربيّة مواقف جماعيّة لحلّ القضيّة الفلسطينيّة...

لقد فاجأهم «اتّفاق أوسلو»، فوجدوا أنفسهم خارجه، بعد أن اعتبرتهم القيادة الفلسطينيّة المتنفّذة ’عرب إسرائيل‘؛ فعمّق إدراكهم بأنّ حلّ القضيّة الفلسطينيّة لن يحسّن من مكانتهم المدنيّة والسياسيّة، وصولًا إلى مبادراتهم بالتفكير في مستقبلهم، خارج الإطار الّذي سبق أن وُضِعوا فيه، حيث ارتدّوا إلى المنبع، فانطلقوا برؤًى جديدة ربطت بين المطالب الوطنيّة والمطالب المدنيّة. هذا ما جعلهم يتوقون إلى استقلاليّة أكبر داخل الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة من جهة، مع التركيز على ما هو إستراتيجيّ من جهة أخرى، مؤكّدين وجودهم في وطنهم، موضّحين مدى الظلم الّذي يمارسه الاستعمار الإسرائيليّ ضدّهم[8]‏.

وظّف فلسطينيّو الأراضي المحتلّة مواطنتهم لانتزاع حقوقهم المدنيّة (المساواة)، مستقوين بانتمائهم الوطنيّ، وهذا ما أزعج الاستعمار الإسرائيليّ الّذي واجه الواقع الجديد بإستراتيجيّة مزدوجة، راوحت ما بين التعاطي مع هذا الواقع، والقمع والاستبداد. لقد قام الأسلوب الإسرائيليّ ضدّهم على المصادرة والتمييز وتكريس التفوّق العرقيّ، وصولًا إلى المطالبة، علنًا، بالتحوّل الجدّيّ من النظام الإثنوقراطيّ الليّن إلى آخر متشدّد[9].

 


إحالات

[1] للمزيد، انظر: Aziz Haidar, On the Margins: The Arab Population in the Israeli Economy (London: Hurst and Company, 1996).

[2] مثّل هؤلاء المهجَّرون ما بين 25 و30% من مجموع الفلسطينيّين في الأراضي المحتلّة عام 1948. وقد تركّزوا في منطقة الشمال والجليل. ومن 162 قرية، هُدِّمت كلّيًّا في منطقتَي الجليل والشمال، بقي مهجَّرون من 44 قرية فقط. ثمّة 11 قرية بقي معظم أهلها (مهجَّرين)، وهي: المجدل، الدامون، البروة، إقرت، كفر برعم، الرويس، حدثة، معلول، المفتخرة، المنصورة، قونية. بينما بقي من أهالي الـ33 قرية الباقية عدد ضئيل، تراوح بين 1 و17%. ومن 69 قرية عربيّة، بقيت قائمة بعد النكبة، استوعبت 17 قرية مهجَّرين (إضافة إلى اللدّ ويافا وأبو غوش). انظر: واكيم واكيم، "لاجئون في وطنهم: "الحاضرون الغائبون" في إسرائيل"، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، العددان 45 - 46 (شتاء - ربيع 2001)، ص 90 - 104، هنري كوهين، الغائبون الحاضرون: اللاجئون الفلسطينيّون في إسرائيل منذ 1948، ترجمة نسرين مغربي؛ تقديم وتحرير عادل منّاع (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 2003)، ص 22 - 25 و179.

[3] للمزيد عن جذور المشكلة، وحجمها، وقرارات اجتماع (1992)، ومؤتمر (1995)، انظر: واكيم، المصدر نفسه، ص 90 - 104.

[4] نديم روحانا، "التحوّل السياسيّ للفلسطينيّين في إسرائيل: من الإذعان إلى التحدّي"، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 2 (ربيع 1990)، ص 58 - 75.

[5] المصدر نفسه، ص 136 - 138.

[6] المصدر نفسه، ص 59 - 81.

[7] وليد العمري، "فلسطينيّو 48 يقبلون بما تقبل القيادة الفلسطينيّة به حتّى لو كانوا هم الثمن"، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة (بيروت)، العدد 8 (خريف 1992)، ص 155 - 163.

[8] أسعد غانم ومهنّد مصطفى، الفلسطينيّون في إسرائيل: الأقلّيّة الأصوليّة في الدولة الإثنيّة (رام الله: المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة (مدار)، 2009).

[9] المصدر نفسه.

 


 

عبد القادر ياسين

 

 

 

كاتب وسياسيّ ومؤرّخ فلسطينيّ، له عدّة مؤلّفات منها «كفاح الشعب الفلسطينيّ قبل العام 1948»، «وغزّة أريحا أوّلًا: المأزق والمخرج».